"الراتب ما بيكفي ضو لمبة".. قرار رفع تعرفة الكهرباء يشعل غضب الشارع السوري
"الراتب ما بيكفي ضو لمبة".. قرار رفع تعرفة الكهرباء يشعل غضب الشارع السوري
تحت سماء رمادية ملبدة بغبار الشتاء القادم، وقف العشرات من سكان مدينة السلمية بمحافظة حماة صباح اليوم الاثنين أمام مقر شركة الكهرباء في وقفة احتجاجية غير مسبوقة منذ أشهر، تعبيراً عن رفضهم قرار رفع تعرفة الكهرباء الذي أصدرته وزارة الكهرباء في سوريا في الحادي والثلاثين من اكتوبر الماضي.
رفع المواطنون لافتات كُتبت بخطوطٍ متعبة لكنها واضحة: "الكهرباء من حقنا مو رفاهية"، و"الكهرباء عالية وجيوبنا فاضية، راتبي ما يكفي ضو لمبة"، كلمات بسيطة تختصر وجع الناس الذين يواجهون يوماً بعد يوم تزايد الأعباء المعيشية في ظل تدهور الدخل وارتفاع الأسعار جراء الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
احتجاج هادئ.. وغضب متراكم
بدأت الوقفة في ساعات الصباح الأولى بمشاركة واسعة من الأهالي، بينهم موظفون ومتقاعدون وأصحاب محال تجارية وربّات بيوت، تجمعوا أمام مبنى الشركة الحكومية حاملين لافتاتهم بصمت في البداية، قبل أن تتعالى أصوات الهتافات المطالبة بإلغاء القرار أو تعديله.
يقول أبو مروان، وهو موظف حكومي في العقد الخامس من عمره: "أنا أدفع نصف راتبي تقريباً على الفواتير، كهرباء وغاز وماء، فماذا يبقى لنأكل؟"، ثم يضيف بنبرة حزن: "نحن لا نطلب شيئاً مستحيلاً، فقط أن تكون الأسعار منطقية وأن يعيش الناس بكرامة".
وتحدثت أم سامر، وهي أم لثلاثة أطفال، عن معاناتها اليومية في تأمين احتياجات البيت: "لم نعد نستخدم المدفأة الكهربائية أبداً، نحاول التدفئة بوسائل بدائية، وحتى الإضاءة نقتصد فيها، الآن رفعوا السعر مجدداً، وكأنهم لا يشعرون بنا".
غضب في الشارع وعلى الإنترنت
لم يقتصر الغضب على الشوارع، بل امتد سريعاً إلى حسابات الكثير من المواطنين في مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا حيث تصدّر وسم "الكهرباء_من_حقنا" منشورات السوريين خلال الساعات الماضية. كتب أحد الناشطين: "رفع الأسعار في بلد يعاني من فقر الكهرباء هو استهتار بمعاناة الناس"، وعلّق آخر قائلاً: "المواطن أصبح بين مطرقة الغلاء وسندان الفواتير".
وشهدت الصفحات المحلية في محافظتي حماة وحمص تفاعلاً كبيراً مع صور الوقفة الاحتجاجية في السلمية، في إشارة إلى أن الغضب الشعبي يتجاوز حدود المدينة الصغيرة ليعكس استياء عاماً من السياسات الاقتصادية الحكومية الأخيرة.
وبحسب ما أعلنته وزارة الكهرباء، فإن رفع التعرفة جاء بهدف "تحسين واقع الشبكة وتأمين استدامة الخدمة" في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع الدعم الحكومي. وتشير بيانات غير رسمية إلى أن الزيادة في بعض الشرائح تجاوزت 200 بالمئة مقارنة بالتعرفة السابقة.
لكن مراقبين يرون أن القرار جاء في توقيت حساس، إذ يعاني المواطنون في سوريا من أزمات متراكمة تشمل ضعف الدخل، وتراجع القدرة الشرائية، وارتفاع أسعار الوقود والمواصلات والمواد الغذائية، ويعتبر الخبراء أن أي زيادة في أسعار الخدمات الأساسية –وعلى رأسها الكهرباء– ستنعكس فوراً على جميع مفاصل الحياة اليومية، بما في ذلك تكاليف السكن والإنتاج الزراعي والصناعي.
تبريرات الحكومة ومخاوف المواطنين
في المقابل، تقول مصادر في وزارة الكهرباء إن القرار "ضروري لضمان استمرارية الخدمة ومنع انهيار القطاع"، مشيرة إلى أن الدعم الحكومي للكهرباء "ما زال قائماً ولكن بمستويات مدروسة"، وأن التعرفة الجديدة تراعي "الفصل بين الاستهلاك المنزلي المنخفض والعالي".
غير أن هذه التبريرات لم تقنع الشارع. إذ يرى كثيرون أن ما يسمّى "الدعم" لم يعد ملموساً، وأن الفواتير باتت تتجاوز قدرات الأسر التي تعيش على رواتب ثابتة لا تتجاوز بضع مئات من آلاف الليرات، في حين أن أسعار المواد الأساسية تضاعفت مرات عديدة خلال العامين الأخيرين.
الأزمة لا تتعلق فقط بارتفاع الأسعار، بل بضعف توافر الكهرباء نفسها. ففي معظم المناطق السورية، لا تتجاوز ساعات التغذية الكهربائية أربع إلى خمس ساعات يومياً، وأحياناً أقل، ما يعني أن المواطنين يدفعون تعرفة أعلى مقابل خدمة أقل.
يقول أحد سكان السلمية: "ندفع ثمن الكهرباء التي لا نراها، نعتمد على البطاريات والألواح الشمسية، ومع ذلك تأتي الفاتورة مرتفعة. كيف نفسر هذا؟".
ويؤكد مهندس كهربائي متقاعد أن المشكلة الأساسية تكمن في سوء إدارة القطاع وضعف الصيانة وعدم تحديث المحطات القديمة، ما يؤدي إلى هدر كبير في الطاقة وانقطاع مستمر للشبكة، ويضيف: "حتى لو رفعوا الأسعار، لن يتحسن الوضع ما لم تُستثمر الأموال في تطوير البنية التحتية فعلاً".
الأزمة المعيشية في أرقام
وفق تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يعيش أكثر من 90 في المئة من السوريين اليوم تحت خط الفقر، ويبلغ متوسط الدخل الشهري للموظف الحكومي نحو 250 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل أقل من 15 دولاراً، بينما تحتاج أسرة مكونة من خمسة أفراد إلى ما يزيد على 3 ملايين ليرة شهرياً لتغطية الحد الأدنى من احتياجاتها الأساسية.
وفي ظل هذه الفجوة الشاسعة بين الدخل والنفقات، يرى خبراء الاقتصاد أن أي زيادة في أسعار الخدمات ستؤدي إلى مزيد من التدهور في المستوى المعيشي، وتراجع الطلب في الأسواق، وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية والخارجية.
وتكتسب احتجاجات السلمية أهمية خاصة لأنها تعبّر عن تحرك شعبي مدني في مدينة تُعرف بطابعها الهادئ، ورغم أن الوقفة جاءت سلمية دون احتكاك مع السلطات، فإنها تحمل رسالة واضحة مفادها أن الصبر الشعبي بدأ ينفد.
ويرى محللون أن هذه التحركات قد تشكل مؤشراً على موجة احتجاجات أوسع إذا لم تتراجع الحكومة عن قراراتها الاقتصادية المثيرة للجدل، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء حيث تتضاعف الحاجة للطاقة.
دعوات للحوار وإعادة النظر
في ختام الوقفة، طالب المحتجون بفتح حوار مباشر بين ممثلي الأهالي والجهات الحكومية لإيجاد حلول واقعية تراعي أوضاع الناس، مثل إعادة هيكلة التعرفة بشكل تدريجي، وتخصيص دعم خاص للأسر محدودة الدخل، وتحسين خدمات الكهرباء قبل فرض أي زيادات جديدة.
يقول أحد المشاركين: "لسنا ضد تحسين الخدمات أو إصلاح المؤسسات، لكننا نريد إصلاحاً عادلاً يراعي الناس، لا قرارات تزيد من معاناتهم".
مسار أزمة الكهرباء في سوريا
تعود أزمة الكهرباء في سوريا إلى ما قبل عام 2011، لكنها تفاقمت بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة بسبب تراجع الإنتاج المحلي للطاقة، وتدمير محطات التوليد وخطوط النقل خلال الحرب، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي تعوق استيراد المعدات وقطع الغيار.
وتُقدّر وزارة الكهرباء حجم العجز اليومي في الطاقة بأكثر من 50 في المئة من الحاجة الفعلية للبلاد، ومع محدودية الوقود اللازم لتشغيل المحطات الحرارية، تعتمد معظم المناطق على برامج تقنين قاسية، تتراوح بين ثلاث إلى خمس ساعات قطع مقابل ساعة وصل.
ومع توسّع استخدام الطاقة الشمسية في بعض المناطق كبديل جزئي، يواجه المواطنون صعوبة في تحمل تكاليف تركيبها، في ظل غياب برامج دعم فعالة أو تسهيلات مصرفية حقيقية.
وبينما تؤكد الحكومة أن رفع التعرفة خطوة "ضرورية للإصلاح"، يرى المواطنون أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إصغاء صادق لصوت الشارع الذي لم يعد يطالب إلا بحقوقه الأساسية: الضوء، الدفء، والقدرة على العيش بكرامة.










